اغتيال حُلُم مع وقف التنفيذ

Leeds tram in the moonlight, WILFRED BOSWORTH JENKINS
(British, 1857-1936).

أُقدِّم في هذا النص فصل واحد من سيرةٍ ذاتية، جادَت بِها مخيّلتي عليّ، وخط بها قلمي ما أراد حكايتَهُ منها في سبعة مشاهد، تأملتُ فيها دروساً مختلفة مما أفاضت بِهِ التجربة على ذاكرتي الأدبية.

المشهد الأول


أمضي إلى المعنى وفي يدي تتناقص المعاني.. أمضي إلى المعنى وفي روحي تتأجل الحياة..

أمضي إليه ومن روحي يستمد نبض الحياة..

يُسيطر هذا المعنى على كياني، أراه قريباً أمامي..

أرى تجسيده البعيدُ كياناً، له رسالة حملها حُلُمي كي يظهُرَ للوجود..

أراه نحوي كما أراكِ، قريبةً إن ابتعدت وبعيدةً إن اقتربتُ أنا..

ما إن أُرخي شعرةً بيننا حتى تشديها، وما إن أشدد عليكِ حتى تقطعي كل شيء وتلوّحي براية الرحيل..

يأخذني المعنى إلى غُربتي في بِلاد الحدود البعيدة بين الناس..

بِلاد لا تغيب عن أرضها شمساً، وتغيب عن أذهانِ ساكنيها كثيراً من تفاصيلي..

تُقرّب مني تلك البلاد حُلمي لفرط ما تعيشه من تجسيدٍ لَهُ..

يأخذني سمو ذلك الحلم إلى ما هو أبعد منه.. إلى خلقِهِ واقعاً..

لكنّ روحي تصبو إلى ما هو أبعد من ذلك، تصبو إلى الحُلم في بلادها، فلا قيمة لأحلامنا في بيوت الجِوار مادام منزلنا لا يسعها!

على امتداد كل تلك السنين كُنتُ أرى مستقبل الحُلُم كما رسمه إليّ ذهني، كنتُ أرسم خارطة الطريق لطريقٍ لا أحد يعلم أين سيُشَقّ له مكاناً!

كان ذهني صافياً لا يلمعُ به سوى أحلامي.. وكانت عيناي أكثر لمعةً..

وكان شبابي دافعاً لي في المُضي قُدُماً والتقدم بخطواتٍ لم أخشَ فيها الزمن!

أسير في المدينة العتيقة وأزقتها الضيقة.. أسير وخطاي مدفوعة بالحُلُم..

تمكنني مكتباتها من سبر أغوارها.. وتستقبلني الحانات بصدرٍ رحب..

تتمثل لي المدينة بكاملها مسرحاً لتحقيق الحُلُم.. أو جسر عبور إليه..

جسراً لم يكن لي أن أعبره دون أن تضع خُطاي بصماتها.. في كل فكرةٍ لامعة!

مدينةٌ عيناها أعلنتا أن الربيع أتى.. ربيع حُلُمٍ سامٍ.

By Louis H. Grimshaw (British 1870 – 1943).


المشهد الثاني


يكبُرُ حلمي معي فأكتبه على قصاصات أيامي، أنثره في الهواء الطلق، وأرسمه على الغيم مع رائحة المطر.. ليتجسّد بفِكري وحِبرَ السماء..

يلمَعُ اسمي كنجمٍ أزاح بدر ليلةٍ ظلماء، ومثل كل القصص لهذا اللمعان أباءٌ كُثُر لم يلتقوا به يوماً!

ولأن الطرق تحتاج مقاولين لشقّها وتعبيدها بحسب مقتضيات ظروفها، قادت حُلُمي الصدفة إلى لقاء مقاول من طراز قديم.. له في مد الجسور وشق الطرق جهودٌ واضحة، وقد أغراه الحُلُم بسِحر تبنّيه بأثرٍ رجعي!

كان لتلك الصدفة في الغيب معنىً خفي، لقيتُهُ في ميدانٍ يتّصل بذلك الحُلُم، وبدا حُلُمي مثل حصانٍ جامح للمرة الأولى أسعى لترويضه..

أسعى لترويضه حتى يتناسب مسيره مع تحمّل الجسر ووعورة الطريق..

رجُلٌ باردُ الدمِ هادئ الملامح مُعتدِل القامةِ يمشي باستقامةٍ محاولاً استعادة مجدٍ قضى نحبه علّه يبعث إلى روحه الحياة مجدداً..

عرُفتُه منذُ زمنٍ ليس ببعيد، جمعتنا الصدفة في عاصِمةٍ تحاول الاحتفاظ بالمجدِ الأوروبي التليد..

أتى حامِلاً مخططاً معمارياً للبناء والتشييد يمسّ رسالة الحُلُمِ وكيانه..

سقطت عيناي على كيانِ حُلُمي مشوّهاً في مخططه!

استماتت كل حواسي دفاعاً لتقويمه وبيانِ فلسفة عمارته الفريدة.. لم تكن شرقيةً ولا غربية.. ولم يكن لروحها إلا قيمة السمو المشتركة بين أفراد العائلة البشرية..

خطّيتُ بقلمٍ لا يُخطئ على الكيانِ الذي سيرعاه حُلمي، على بذرةٍ يجب أن نزرعها وإن طالَ موسم الحصاد أو لم يأتِ..

عرّفتُه على لبِناتِ بناء ذلك الكيان، وبصورةٍ مبسطة عن حُلمي الرامي للبناء، عن إرادتي في شقّ طريقٍ وتعبيده من الصِفر، عن أساساتٍ يرفض دماغي الرسم دون وضعِها، عن قواعد متينة شغلت العالم في مراحل تطور حضارتنا البشرية..

كانَ يستعِدّ للقاءٍ مفصلي في إعادة مجدٍ لم يعُد إلا طللاً، أجدُت له في الاقتراح وأسهبتُ في الشرح..

كسِبَ رهان بناء الكيان الحُلُم.. وصحِبني لتشييده!

By Ali Almimar

المشهد الثالث

لم يستعصِ على ابن البيداء يوماً أي شيء يتصل بالنِضال..

كانت الحياة معركةً داميةً بالنسبة لي، ولم يكن خروجي منها بلا دماء هدفاً أساسياً لأيّ من المعارك التي خضتها..

شهِدَ هذا الفصل من رواية الحلم انتهاء عهد الغربة بي.. وكان التوق إلى تبني الحلُم يسيطر على الجميع ويُسيّرهم..

يجتمع الناس لتقاسم أدوار مخطط البناء كما يتقاسمون الحلوى صبحاً وعِند المساء.. والمقاول في الخلفية صامتاً يترقب مصيره الموعود..

أنثُرُ بذور إبعاد الكيانِ وتمييزه عمّن سواه.. أكتبها في طيّات رسائلي وأُجيب بها عند السؤال..

حربٌ باردةٌ بينَ الشرقِ والشرق ذاته، تتفكك بانتهائها كيانات سعت لاختطافِ الحلُم والتفرد برسالته السامية..

قبل تفككها باءت مساعيها بالفشل في التبني.. أتقدم وأكسب أم المعارك انتصاراً لحلمي لا لنفسي..

لكن نفسي تأبى إلا أن تظهر بكاملِ صفاتها، وأجدني أوزّع الغنائم على الفلول وفاءً بوعدِ مَن سقط مِن أباءهم..

وفي آخر فصول الحرب، ألتقي بمقاتلة انشقّت عن صفوف الخصم في خضمّ المعركة وانضمت إليّ طوعاً..

لعينيها لمعانٌ يليق به استكمال مخطط الحُلُم، وتشييد البناء كاملاً..

تستمد ذلك اللمعان من أحلامٍ أُخَر، وكانَ لرسمها وتشييدها وقع الصاعقة على الخصوم..

أجادت حمل كلّ ما حُمِّلَت به ولم تكل.. حملت شُعلة الحُلُم إيماناً بمخطط رسمته وهي ابنة الثالثة عشرة..

أحرزنا سويةً انتصارات ساحقة وكتبنا فصول نهاية أولى الحروب الباردة، وعُدنا إلى معقِلِنا المرسوم في المخطط..

نعودُ إلى المعقِل تنفيذاً للمخطط، ولا تقف الحروب الباردة عند أعتاب بيوت الجوار، يظهر مقاولنا كأنما حمل عنّا الراية في وسط الحرب، كأنما كان ممسكاً بعنانِ الخيل وأنا أقاتل بيساري مع يميني!

يحتفل بانتصاره فعلى أي حال سيُكتب البناء باسم مقاوليه ولن يذكُر أحد من بناهُ بفكره قبل أن تسيل الدماء من يديه..

أرضٌ خاوية بلا أعمدة لا يسند ساكنيها أي حائط، رجلٌ متوتر يرتجف قلقاً من أن يخسر..

سوادٌ عظيم يسد الأفق من ذا الجانب وذاك الجانب.. يتخبطون يُمنةً ويُسرة..

كان للمقاول رأياً في إدخال لمسات البناء الحديث على المبنى الحُلُم.. فكانَ مَقَرّ مُقامي زجاجياً يطِلّ على منظرٍ ساءت برؤياهِ عيني وضاق صدري بما يراه فيه..

تسلّحت بلوحةٍ للبولندي توماس ألِن كوبيرا “الخروج من القطيع” تيمُّناً برجل اللوحة المُنشَقّ..

ووضعتها كحصن يحجب سوء المنظر عن عيناي، ويحفظ حلمي من الجوائح التي قد يأتي بها حماس المقاول بتحديث المخطط تمشّياً مع أحدثِ الصيحات..

مشاهد لم ترتقِ لأحاديث ممرات حيّ شعبي، وأنا أعمل بصمتٍ مدفوعاً بِحُلمي..

معارك حربٍ غارقة في الوحل.. وسُقيا ريحان طمعاً في الأجر والثواب..

جمعٌ من البشر.. مِثل باطلٍ أُريدَ به حقاً.. تمتلئ الساحة بنعيق الغربانٍ وصياحِ الديكة!

صامِتاً أبني بحدةٍ ودقة.. ظهر هيكلُ البناء مِثلَ أهرام شامخة وسط صحراء لا نهر فيها ولا بحر يطلّ عليها.

By Jeremy Mann


المشهد الرابع

ظُلمةٌ تلُفّ أرجاء المكان، كُلما أضأتُ شمعةً أُطفِئت..

أمضي إلى المعنى في عتمةِ الليل ممسكاً بيدي شمعة، كُلّما أحرقتني زادت قدرتي الفطرية على إضاءة الطريق..

نشازٌ يلُفّ أرجاء المكان.. تعلو على الصمت أصوات تحسب أنها تبدد حقيقة الحلم.. أُصمِتُ مصادر النشاز وإن كثُرَت وعلَت، وأقطع دابر النزاع إن اقترب من حُلُمي..

يزداد البناء جاذبيةً وجمالاً، ويتحول مُقرّ مكاني إلى ساحة حربٍ عشوائية مفتوحة الاحتمالات، لا أحد يحمل رايتها فهي حرب الجميع مع الحُلُم، يرسم جموعها مخططاً لاغتيال الحُلُم، يُثقِل مقاولنا كاهلي ببناء ما يهدِمه المتصارعين مجتمعين، يتساوى الليل والنهار عندي، أقدم وقتي كاملاً قرباناً لذلك البناء، وكلما أُنهِكت كُلما رأيتُ حلمي يزداد لمعاناً في عيني!

كانَ مقاولنا معصوبَ العينين عن الصراعات، إذ تمتلئ ساحة الحرب العشوائية بأبناء جلدته وصحبه وخلّانه ووسائل ترحاله التي يمارس على ظهرها هواية ركوب الأمواج..

لم يُدافع عن البناء يوماً، كان يضعُ قدميه في الماء ويسترخي ساعات الصباح وعند المساء، وبدأ يطلب المزيد من جهود البناء وتغيير المخطط في منتصف أعمال البناء، طمِعَ بكل ما آتيته، ولم يعُد يرى ما أبني لأن مطامِعَه فاقت كل شيء!

بات يتحدث بنقدٍ لاذعٍ لمخططات البناء التي رسمتها، مستخدماً المفاهيم التي علّمته ضدّي!

By Gao Xingjian.

المشهد الخامس


أُخرَجُ من مقر مقامي الذي كانَ عصب البناء.. ويُزَجّ بي إلى ناحيةٍ ليست ببعيدة، أُحرَم من فرصتي في مواصلة البناء.. أو ترجمة ما جاء في مخططه!

أخرجُ تاركاً البناء خلفي، ولا أحد هناكَ يجيد ما نطقت به رسالته..

صمتٌ مُطبق، لا حاسة سمع هناك ولا ألسنة، ولا دويّ انفجارات، فهذا قدَرُ الله! وعلينا الرضا والقبول اتباعاً لباب الخوف من الشرك الوارد في كتاب التوحيد!

مقاولٌ مرتبك كأنما خسر كل ما أوتي في هذا المكان، متأثّراً باهتزازات البناء والقلق المصاحب للعواصف المحيطة؛ أمام أول حائط بدأ ينهار من البناء.. غرس يديه بين الركام، ظناً منه أنه يُنقِذ الورد.. انتشل أشواكاً بلا ورود من بين التصدعات أملاً في إنقاذ ما يمكن إنقاذه في بنائه، وإذا هي فصيلةٌ أخرى من زُمرةِ حلبة الصراع العشوائي غير محدد الملامح.. تخلعُ قناع وجه الغُراب خُفيةٍ عمّن يعرفها، لا أحد يعرف وجهها إن هي فعلت ذلك، لأن القناع يحجب ذاك الوجه عن دوائرها.. وكرد فعلٍ دفاعي عن كيانها تستميت في الهدم.. يدفعها الحنين إلى أصلها في الصدوع وبين التشققات إلى الهدم كرهاً بالبناء..

لا تُعينها صِفاتها على فهم الرسالة ولا على الاحتفاظ بأساسات البناء.. تعكس الظلام الدامِس في وجه النور..

آمن المقاول بذلك الظلام لغايات لا تتصل بالبناء.. فالتميّز يعني لديه أن تكسو الكون بالعتمة لغاية إضاءته.. لغاية معرفة قيمة النجم الذي أضاء الكونَ يوماً وانطفأ..

يمضي المقاول خائفاً من الشرك إن اعترض على القدر.. سائراً باتجاه معاكسٍ للمخطط..

يُتلف رسومات المخطط واحدةً تلو الأخرى، باعتبارها إرث قديم، ويستعيض عنها باستراتيجية المقاول المهزوم..

 يسير في مضامير السباق ويضع له مخططاً بعد عصفٍ ذهني استوحاه من أحاديث السير مع أشواكَ العُتمةِ..

يمشي على الرصيف ليرسم بخياله طريقاً جديداً يخيل له أنه مناسباً لأساسات البناء..

لا يعينه كبريائه على الاعتراف بأنه ضَلّ الطريق..

 يمضي مدفوعاً بوخز الشوك ولا تعينه العتمة على الرؤية..

تنحني الطرق وتضيق، ويتفرع عنها طرقٍ منحدرة..

ينعطِفُ المقاول معها أينما سارت أو ولّت ظلامَ وجهها..

تهتز أساسات البناء على وقع أنغام النشاز.. يصل خبر الانهيار لمن يُثريهم وقع الكوارث..

يبدأ الترويج إلى بناء جديد في موقع حديث وطريق جذاب؛ امتصاصاً لغضب من آمن برسالة الحُلُم..

يُعلِن مقاولنا أن المخطط الجديد سيرسمه بتحالفٍ مع مقاول جديد، له خبرة تتسم بالعراقة والحداثة معاً “تجمع الأضداد في كلّ الأمور” كما يُقال في لهجتنا!

يتمرد ساكني البناء على تنفيذ قواعد المخطط.. يدعونني للسؤال إن ازدادت الخلافات، وما إن أنبس ببنت شفة حتى تعلو أصوات النشاز بِعدّها حقيقةً لا مناص منها، وينطق مقاولنا بأحكامه حيال الخطأ والصواب في مواجهتي كأنما لم أعلّمه بالأمس تقويم تشوّهات البناء!

يدرك مقاولنا ضياعه أمام المقاول الجديد، ويقرّب أشواكَ العُتمةِ يداً له يبطش بها أمام الجميع.. تمضي الأيام ويؤول البناء إلى السقوط.. وفي كل مرة يطلب مقاولنا منّي المساعدة، وكلّما قدّمت ما أستطيع ارتدت الأشواك على ساعدي.. حتى سقط البناء كاملاً ولم يعُد إلا رُكاماً.

By Jakub Schikaneder.

المشهد السادس

أشعثٌ أغبرٌ خارجاً من الركام.. يُناديني كأنما أنطقه الله بعد الخرس طالباً الإغاثة، طالباً حِفظ ما تبقى من أساسات البناء، وبعض الترميم، ولا ضير في قليل من التعليم مجدداً.. أسوةً بالأئمة الراحلين ومعلمي الكتاتيب الأوّلين!

يأخذني صدق رسالتي للبناء الذي أُرغِمتَ على مغادرته، مدفوعاً بعاطفة حلُم وإيمانٍ متجدد وعطاء لا ينضب!

أُطِلُ على الرُكام كأنما أُشاهِد ساحة حربٍ محروقة..

يُطلب منّي الترميم طمعاً في أن أبني ما بنيته فيها في الماضي القريب؛ بناء غير منتهي بانتمائي لأي من النواحي القريبة.. أن أُنعِش القَتيلَ ليحيا بين أيدي من قتلوهُ غيلةً..

وما إن أُشعِلُ سيجارتي لأُمارس طقسَ الوقوف على الأطلال كشاعرٍ عربيّ يستفتح مطلع قصيدته، حتى تشتعل النار من حوليَ..

أشهَدُ مسرحيةً تحت عنوان “حفلة التفاهة” برعاية أشوك العُتمة، تتلخص أحداثها في إعلاء أصوات النشاز، وقرع طبول النفاق.. والمشي على خلفية نهيق الحمير إهانةً متعمَّدةً للعقل والجمال!

بعد أن يُسدَل الستار عن المسرحية تأتي أصوات الاستغاثة..

يتغيّر صوت مُقاولنا لينطِق مثل مُعلّميه الأوائل “أنقِذنا يا مرجِعنا المنفي فهذه رسالتك التي نحمِلُ مشعلها غير مدركي شيئاً منها، أردنا أن نحملها مختالين متفاخرين بِما أُعطينا ورُسِم لنا، وأُرِيدَ لنا أن نكون كذلك، وأثقل الحِمل كاهلنا فمالت الراية نحو اليسار، نحو اليسار البعيد، حيثُ لم نعُد نعرف من الرسالة إلا اسمها وقَد قُلِبَت معاني عباراتها، وإن أذنبنا في ذلك وغرقتنا الخطايا أحياناً، فنحن نطلب السماحَ منك، فإن لوجوهنا سِمةً أعجمية لا تُنقِذنا محاولات فِهم ما كتبته بالعربية من طُغيان لغتنا الأصلية عليها”..

لا الفاصلة فاصلةٌ تماماً ولا النُقطة كذلك، فقد دُمِّرَت لُغة رسالة الحُلُم عن بكرة أبيها.


By John Atkinson Grimshaw.

المشهد السابع


تتلاشى أشواك العتمة بفعل المواسم.. تتساقط على أطراف الأرصفة وتسقط عائدةً إلى تصدعات الأرض..

لا أقتص من أحد، فلستُ أكثرَ عدالةً من الحياة..

تؤرقني العدالة كقيمة مجردة، فأكيل بها بلا تطفيف..

غير أن العدالة كقيمة بدت لي أحياناً عاجزة عن الدفاع عن ذاتها، وأن كل من ينطق بلسانها يبهتها.. وكل من يرتدي عباءتها يضل طريقها..

الرحمة والشفقة هما مشاعري اليتيمة تجاه مَن أكره في ضعفه.. أخاف أن أنتقم منه فيكون حكمي عليه جائراً.. أخاف أن أجهل على مَن لا أُطيق له وجوداً فيكون جهلي عليه تدميراً..

يُنادى إليّ بوساطة مقاولين كُثُر، طلباً للمساعدة التي لم يتوقف أحد عن طلبها..

أعود من غربتي المؤقتة لأشهد مقتَلَ رسالتي عمداً مع سبقِ الإصرار والترصد..

يُثقَل كاهلي ببعثِ أشواك الظلام مِن مرقدها، بعد أن تم إنعاشها من مقاولنا، والتكفل بمن حولها ومن حُسِبَ عليها، ترميماً لما تصدع من الأرض وما عصفت به الريح من ركام البناء!

وأجِد أن المعركة العشوائية لم تعد كذلك، أصبحت أرض البناء ساحة حربٍ مخططٌ لها..

ساحة حربٍ بين كل مقاول يحلم بتبني رسالة البناء السامية، ساحة لكل حالمٍ بحملِ راية السمو وإن لم يفهم شيئاً من الرسالة..

أُدركُ أن الحرب وضعت أوزارها، ولا شيء جميلٌ في الحرب إلا نهايتها..

وحيداً أقِف، أُدافع عن حلمٍ لم يزل فتياً، أدافع عن بيتٍ هدّمته الأعاصير، أُدافِعُ عنكِ وعنّا جميعاً، أُشعِلُ سيجارتي مستعداً لسماع أصوات النشاز التي اعتدتها، مُعِداً لها العدة والعتاد لتمضي في طريقها الأصلي بعيداً عن الرسالة، وإذا بأصحاب تلك الأصوات متّشحين بالخرس!

يُنادى كُلّ باسمه، ولا أحد هُناك.. يُطبِقُ الصمت مجدداً على المشهد، أستِمُع إلى صوتي وأنا أُعيد وضع النقاط على حروفها، أُعيد ترميم المخطط بكلماتٍ لم تكن كثيرةً أو مبتذلة، تعود النداءات بالأسماء.. ولا صوت يعلو فوق صوتي، وما إن أفرَغُ من الحديث حتى تعتدل رايةُ الرسالةِ متكئةً على كتفي..

تملأ صدري نشوةَ النصرِ ويسيطر على وجداني الزهو بالفرح؛ فرحاً باستقامة الراية وإدراكاً لفشل عملية اغتيالها.. حتى إشعار آخر!

وحتى إشعارٍ آخر، لا زال في هذا الصدرِ قلبٌ ينبض، ونَفَسٌ يتردد!

وتأبى نشوة النصر إلا أن تأخذني بعيداً من كل شيء، وقريباً إلى حُلم رؤية رسالتي للنور، وإن كانَ نورها لا يلمع قريباً من عيني، فأنا أُراقِبها.. أرمُقها بنظرة الخائف عليها.. مُدافِعاً عنها ما حييت.. قريباً كُنتَ إليها، أم بعيداً نُفيت عنها.

%d مدونون معجبون بهذه: