
ابتدأ هذا اليوم باكراً، وصلتُ باريس عند الساعة السادسة وخمس وأربعين دقيقة صباحاً..
لا الصباح الباكر الذي يغطيه الظلام.. ولا الليل الصاخب الذي تطغى عليه ثيمة الإضاءة الصفراء يُشبِعُني لأكتفي بما نلته اليوم وأنهي السباق مع الزمن بنومة هانئة..
أوراق الشجر المتساقطة على الطرقات.. الرياح القوية التي تسبق العاصفة الرعدية..
إرهاق اليوم الكامل.. والسلالم التي كانت شاهدةً على عصرِ النهضة..
أشياء متفرقة، تطلب منّا المزيد لتجميعها وإكمالها..

وحدي في المطعم ولا أحد يعرِفُني.. تغيّبت الوجوه التي تألفني، وتغيّر لون المبنى ليرتسم بالأخضر المخطط بالأبيض عوضاً عن مزيج الأحمر والذهبي الذي عُرِفت به المطاعم الباريسية القديمة..
مطعمٌ وأنا واحدةٌ مع هاتفي.. هاتفي يُغنيني عن كل الجرائد
أخلع جاكيتي وأتذكر توبيخ المرأة المسنّة عن فعلتي هذه.. وهذه المرة أنا حرّة لأني غير معروفة لأحد، لا أحد يوبخني ولا أحد يجرؤ على الحديث معي، إذا استثنينا فضول بعض الأعيُن.. الطبيعي ربما..
أذكُرُ ما قاله درويش عن أن تكون حراً عندما تكون منسياً في المقهى، وأقرأ لرياض الصالح الحسين الآتي:
“لا فائدة من الرغيف
ما دام القلب سيظلُّ جائعًا
لا فائدة منِّي
ما دمت سأموت دون رغبة
وثمَّة فائدة لكلِّ هؤلاء
عندما نمضغ عنب الحريَّة!.
والعِنَب هي الفاكهة التي كانت تُغطّي باريس وتحميها من فيضان نهر السين أيام عصرِ النهضة..