
أُسدِلَ الستار عن شتاء هذا العام وأنا في عاصمة يأسرني الشتاء فيها قبل الربيع.. وقبل كُلّ المواسم..
كان جُلّ ما ألهمتني فيه فتنتها وبهاء أيامي فيها.. هو عدّة رسائل وتدوينات خرجت من قلبي ليستقر بعضها في البريد الإلكتروني الخاص بأحدهم، ونال بعضها حُرّيته ليُنشر مثل هذه التدوينة..
لم يُعلمني شيء كتابة الرسائل مثلما علمتني قوة المشاعر.. مثلما الاضطرار، كان عليّ أن أكتُب، كان عليّ أن أُعبّر، لم يكن هناك شيء بديل..
ومثل كلّ الأشياء التي نفعلها بدافع العاطفة.. تعلّمت كتابة الرسائل جيداً وعلى أصولها كما يُقال..
إن القُدسية في اللغة العربية هي مصدر صناعي من قُدس، ويعني حُرمة وطهارة، لكن للقدسية في ذهني أو في أذهاننا جميعاً معاني كثيرة أخرى ذات صلة، ومن بينها أن تُشير قدسية الشيء إلى كماله عن النقص مثلاً..
مُحاطة بالعالم المادّي أنا، لأن العالم كلّه مادي، ليس بالمعنى المستهلك لهذا المفهوم، ولكن بمعنى المادي المُضاد للمعنوي، وهذا ليس وضع خاص بي حتى أصف به ما يحيط بي من ظروف.. ربما يكون الظرف الخاص هو أن رد فعلي الدفاعي عن الانغماس التام في هذا العالم، هو الحفاظ على مشاعري بعيدةً عن هذا العالم.. لا أقيسها بمقاييس هذا العالم، ولا أقربها لما فيه، أحميها وأحيط بها ما شئت لتبقى في عيني صافية لا يشوبها شيء، ما أشعر به أقوله، وما أتصرف على نحوه لا يُخالف ما أشعره به..
ليس الحُب وحده هو ما يُصنّف تحت خانة المشاعر في حياتي، شعوري بقطط الشارع وبالعصافير التي تجمع لها أمي كل شيء حتى طبق الجورانولا الخاص بي، هي أشياء مرتبطة بكياني المعنوي، وبالضرورة لن أقبل التخلي أو التنازل عنها مادامت تمثّل لي ذلك!

قبل يومين تأخّرت جميع رحلاتي، وأصبحت صالات المطارات مسرحاً لتأمُل أنواع وصور المعاناة الإنسانية، مظاهر الفقر على الناس الأقل حظّاً من العُمّال ورُعاة الماشية وغيرهم من الفئات التي يُصب عليها هذا العالم كل غضبه وتتأثر بجميع الأزمات، ولا تستفيد من الرخاء والانتعاش الاقتصادي.. آثار جائحة فيروس كورونا (كوفيد-١٩) التي ظهرت بوضوح هذا الصيف.. معاناة الأمهات مع الأطفال والشعور بالحرج من تصرفاتهم أمام الناس ورجل يقف على رأسها يُلقي اللوم عليها في بكاء طفلها.. معاناة من وُلِد بإعاقة أو فقد إحدى قدراته أو حواسّه في مرحلة من حياته.. معاناة الأمية لدى من لم يستطع قراءة اللوحات، وعلى الجانب الآخر من طلب منّي قراءة الأرقام العربية لأنه يراها للمرة الأولى.. وغيرها من صور المعاناة الإنسانية التي قد يكون بعضها ظاهراً، ولا أحد يعلم بوجود البعض الآخر..
أحياناً أمُدّ يد العون ما استطعت، مثل أن أقف على جانب الطريق لأُسعف قطة، وأحياناً أكتفي بإعلان اعتراضي بيني وبين نفسي على هذه المعاناة إن لم أستطع فعل شيء..وذلك كلّه بحسب الظروف والأحوال.. مثلما يستثني القانون بعض الأحوال، وأن يشدد ظروف العقوبة في بعض الأحوال.. لا حُكم مطلق في كل شيء..
ولكن في جميع الأحوال تُكبّرني معاناة البشر سنين، وتجعلني أكتُب الرسائل لهذا العالم، إما عن فهمي للأشياء وهذا الكون.. أو عن غضبي.. وهذه أشياء لا تخلو من المشاعر، وهُنا أعود إلى البداية، إن المشاعر التي دفعتني إلى كتابة الرسائل هي مشاعر محددة..
أن يفرغ قلبي من العالم كُلّه، ليمتلئ بالحب.. هو أمرٌ يُخفف عن روحي وطأة بؤس هذا العالم وشقائه..
فإذا كان تفانيّ في العمل هو ما يرضيني عن مُساهمتي في هذا العالم، وما أحاول تقديمه للناس، فإن مشاعري هي العلاج الروحي لي، بهذه البساطة..

صحيح أنّ الأمر مُعقّد ولا يمكن التسليم بشرح بهذه البساطة والمباشرة، لكنّ هذا ما أود قوله وأنا أُقابل شاطئ بحر الشمال ليلاً والقمر في اكتماله..
إن الرسالة التي كتبتها في شتاء مدينتي الساحرة، تسلّمت الرد عليها في مطلِع الصيف، وكان الرد هو ما جعلني أرى الرياض وشوارعها مصحوبةً برائحة شتائها الزكية على انعكاس المياه في بحر الشمال، بدلاً من ضوء القمر.. لأن مشاعري تجاهها أقوى من كلّ بهاء وجمال ذلك البحر.