الفضول المعرفي وشغف التعلّم

Geneviève Daël- Works!

في كل مرة أشرع فيها في الكتابة عن أهم مراحل حياتي، أجدني أتوقف عند مرحلة الطفولة أو مرحلة الدراسة الجامعية.. كأن عمري ينقسم إلى مرحلتين: كنتُ طفلة ومن ثم دخلت الجامعة..
كُنت طفلة تصحو مبكرةً حتى لا يفوتها اليوم ويبدأ بدونها..

أصحو مع طلوع الصبح في جميع المواسم، أركض إلى التلفاز وأتأكد من تشغيله إذا تأخرت يومًا في النوم
ومن ثم أتناول إفطاري..

قناة العربي الوثائقية التابعة لتلفزيون دولة الكويت كانت مرجعي الأول لكل ما تلقيت من معلومات في تلك المرحلة، من خلالها شاهدت معارك القرن، حضرت إنزال نورماندي وشاركت متفرجًا باكيًا في الحرب الأهلية الإسبانية،
وتعرفت على الجيش الجمهوري الإيرلندي الذي أورد في قاموسي مصطلح القومية، وغضبت من عدم إمكانية حصولي على نسخة ورقية من الخطط العسكرية لقوات الحلفاء على الخريطة..
مرّ غريبًا على سمعي مصطلح الاستشراق ابتداءًولكنّه سرعان ما أصبح مألوفًا لدي بعد انتهاء فترة الحروب النابليونية.

قفزت بعدها إلى الحياة الجامعية وخلال التنقل بين ممرات معامل التشريح كنت أفكّر في مقدمات الدساتير وأتساءل كيف استطاع مونتسكيو بعبقريته وفكره الاستثنائي تأسيس مبدأ تقوم عليه ديموقراطيات العالم اليوم!

كيف يقتنع الناس بالدساتير؟ هل أجد في علم الأعصاب ما يُشير إلى وجود أثر للنظام القانوني على أفكار الناس؟ على عمليات التفكير اليومية العادية للفرد، وما هي عوامل صمود بعض الأفكار مقابل اضمحلال غيرها؟ هل أطلّ على الدستور من خلال التركيبة الذهنية للفرد؟ أم أن تفسير تصورات الفرد عن الحياة موجودًا في ثنايا النص الدستوري؟ هل توجد علاقة حقيقية بينهما؟ وهل لقناعة الفرد دور في ذلك كلّه؟

قال لي أحدهم مرةً “أخشى أن اهتمامك بالأعصاب نابع من اهتمام بالعقاقير المخدرة!” أجبته مرارًا وتكرارًا “لا، أنا مهتمة بالقوة، بالسلطة، بالقدرة على الإقناع”.

لم يسعفني حينها وقتي للقراءة مثلما في الأيام السابقة، اعتمدت على وثائقي تاريخ العالم لأندرو مار والخط الزمني للعالم لمؤلف نسيت اسمه إذا ما وجدت دقائق أسترد أنفاسي فيها بعيدًا عن المعلومات الصحية التي أُحِبّ حتى هذا اليوم!

تقدّمت خطوةً نحو مونتسكيو وأصحابه عندما بدأت أخيرًا في دراسة القانون، وأصبحت ديباجة الدستور موضوعًا أناقش أساتذتي فيه بدلًا من أن أتلوه على نفسي في سرّي بين الممرات..

وفي رحلتي إلى دراسة أفكار مونتسكيو وروسو وهوبز عن الدولة وجدتني تجاوزت الخط الزمني سريعًا وقلصت الفوارق وبدأت أترجم تساؤلاتي من خلال البحث
تاركةً خلفي ميكافيلي الذي لم أحبّه يومًا.. كان أول بحث كتبته في العلوم السياسية أبسط ما كتبت حتى الآن، لم أكتب بحثًا باللغة العربية قبل ذلك، لكن مناقشتي في ذلك البحث هي أهم الأحداث التي جرت في حياتي، عرفت بوضوح وبما لا يدع مجالاً للشك أن الدساتير وأنظمة الحكم هي كل ما أحب الحديث عنه، وهي كل ما أتمنى أن أقضي بقية حياتي في تعلّمه والعمل به.


وفي فترات الركود التي مررت بها من حين إلى آخر، كنت أشعر بسوء لكثرة اهتماماتي وألقي باللوم عليها إذا لم يكفيني وقتي للتدوين، كنت أظن أن كثرة اهتماماتي هي ما يشغلني لكنّي عرفت أن اهتماماتي تدور حول فكرة محورية واحدة، وأن فضولي المعرفي وشغفي في التعلم وكثرة اهتماماتي هي ما ميز عملي ومسيرتي المهنية وترك بصمته على تجربتي في الحياة، وأن سبب ضيق الوقت أو عدم وجوده في فترات الركود له أسباب أخرى تختلف باختلاف الظروف، أبرزها استخدام مواقع التواصل الاجتماعي الذي يقضي على الوقت، وأحد اللاعبين الأساسيين في ضيق الوقت العيش في عاصمتنا التي تكلفك بضع سنوات من عمرك مشاوير التنقل فيها.
لن ألوم فضولي المعرفي بعد اليوم، لأنه يسبب لي الانشغال الذي أحبه، ربما سألومني إن توقفت عن التدوين هذه المرة!

%d مدونون معجبون بهذه: