سماوات مُزيّنة بالنجوم.. على ضِفاف رُدانُس..

القَمَر ليلة الرابع عشر من ربيع الثاني، أفنيون، ٢٠٢١.

خصصتُ هذا الليل للمشي ولا شيء غيره، وما إن خرجتُ من غُرفتي حتى أخذني صمتٌ مهيب، لا وجود لأي مصدر ضوء حولي.. أرى طريقي من خلال نور القمر الساقط على الأجسام..

تأخر الوقت كثيرًا.. مشيتُ كثيرًا وما زلت أنظُر إلى السماء مجددًا وأستشعر هيبة المشهد، وجماله، وجلاله..

في حضرةِ مشاهد كهذه، وفي مواجهة الطبيعة، كلما حاولت الصمت في حضرة الطبيعة المُهيبة، والفاتنة جدًا كهذه التي أمامي، أشعُر بأني أشتهي أن تكون هذه اللحظة أبدية، أن تكون الحياة لا شيء سوى لحظة تأمل في جمال السماء، هدوء المساء، وصوت النَهر..

لا أُريدُ لهذه اللحظة أن تنتهي، ولا أُريد أن أغفل عن زهرة أفنيون فتأكُلُها الأفعى، لأنّي أُطيق السهر سبع ليالٍ متتالية، ولا أخافُ إلا مِن الأفعى، تختفي زهرتي وأجدني أقطع جسر الأفنيون لتأمل المدينة القائمة على ضِفاف النهر، ربما تكون الأبدية لها وليست لي.. وما إن أقطعُ الجسر كاملًا حتى أجد زهرتي في جيبِ معطفي، خشيتُ عليها مِن البرد وخبأتها.. ماتت من نقص الأُكسجين وسببت لي حساسية في كفّ يدي اليُمنى ومِعصمي، كأنها تُعاتبني على موتها بهذا.. لم أُقابِل أُوتنابشتم ولم أحظ بصديقٍ كـ أنكيدو، لكنّي محظوظة فقط بمعرفتي بنهاية القصة.. وحتمية فنائنا من اللحظة الأولى للحُلُم.. مِثلَ حُبّي الفاني لحظة بدايته..

في طفولتي كُنّا ننام في باحة منزلنا، مِثلَ طقس تقليدي لاستقبال الخريف، كان أكثر ما يفتنني في ذلك هو فرصة مشاهدتي للقمر والنوم على ضوئه، كُنت أشعر بقرب الأبدية إن أغمض عيني النُعاس وأنا أنظر إلى القمر..

أُكمِل مسيري على ضِفاف نهر الرون في ريف أفنيون.. أتساءل عن آلهة رومانية مرّت من هُنا، أتساءل ما إذا كانَ رُدانُس أصلًا نهرًا مُقدسًا؟ فاسم رُدانُس يليقُ بآلهة عظيمة تحمي الرون أو تتخذه مقرًا لها مِثلَ وادي الملوك، ما بالُ هؤلاء القوم لم يقدسوا هذا كُلّه؟

على عكس الراين Rhein الغني تاريخه بالأساطير، لأهميته وكونه نقطة حاسمة في النزاع بين القبائل الجرمانية والرومانية مرةً، والنزاع بين فرنسا وألمانيا مرةً أُخرى، يأتي رُدانس Rhodanus باللاتينية، أو الرون Rhône بالفرنسية نهرَ أُمةٍ واحدة بلا نزاعات ولا أساطير ولا جنّيات يحملن وزر اختفاء السُفُن التي اختطفها العدو من الأُمتين الجرمانية والرومانية..

سماء الرون وقمرها، مرصعةً بالنجوم، سان ريمي، ٢٠٢١

يأتي الرون بسمائه المُرصّعة بالنجوم كمَا رسَمها الفنان الهولندي فان خوخ (١٨٥٨-١٨٩٠)، عندما كان يقيم في مصح سان ريمي بالقرب من أفنيون، وربما ليست Starry night هي المفضلة عندي، وإنما Starry night over the Rhône هي عمل فان خوخ المفضل لدي والتي رسمها في الثاني من أكتوبر من عام ١٨٨٨، تصوّر هذه التحفة منظر الرون وسمائه من مدينة آغل Arles الفرنسية على ضفاف الرون.

Starry night over the Rhône – Van Gogh (1888)

أُطيل التأمل في سماء الرون محاوِلةً تتبع أثر عدسة المصوّر الألماني رولف سوسبريخ، عندما التقط سماء الرون المرصعة بالنجوم في يوليو عام ٢٠٠٨ ، وأرى تلك الزاوية جيدًا.. في مُخيلتي..

Rhône site- Rolf Süssbrich, 2008
القمر يختبئ خلفَ الأشجار، سان ريمي، ٢٠٢١

أعودُ إلى مقر إقامتي، حامِلةً معي غذاءً لذاكرتي ومشاعري، وتمرينًا لبُنيتي النفسية، يُرافِقهُما فناء حلم الأبدية، كما رافق جلجامش من قبلي..

%d مدونون معجبون بهذه: