
كانت جارتنا في الحي “مُنتهى” امرأة معروفة بشخصيتها القوية، كانت البنات تراها قدوة لهن في تفوقها العلمي ونجاحها في عملها.. أبعدُ ذكرياتي معها وجودها دائمًا في حملات التطعيم قبل انضمامي لصفوف الدراسة.. وبعدما ذهبت إلى المدرسة، كانت تأتينا في حملات التطعيم المدرسية أيضًا، وما إن تراني حتى تُلقي التحية عليّ وتسألني عن حال والدتي ووالدي ثم تغرز إبرتها في كتفي.. وكلما أعطتني إشارة ألا أنظر إلى الإبرة، أقول لها “ما أخاف، أبدًا”.. تضحك وتقول لي “بالسلامة”..
في نفس الفترة الزمنية تلك، اختبرت عدة حوادث متشابهة في فترة قصيرة، ومتكررة أحيانًا، لامرأة تصرخ بصوت عالٍ تهرب من رجل يحاول اللحاق بها وينعتها بأقبح الصفات وينطق بأبشع الألفاظ.. تركض المرأة نحو بيت المجاور لنا، تطرق الباب.. يمسك بها الرجل ويعلو صوت ضربات متكررة وقوية في نفس اللحظة.. يزداد صراخها.. يُفتَح الباب.. يهرب الرجل.. تَسقُط المرأة أمام الباب ويسعفها إخوتها الصغار..
بعد روايتي لبعض ما رأيت على والدتي، أخبرتني أن هذا يتكرر كثيرًا، وأن هذه الحادثة قد أراها في أي مكان، دون انقطاع.. لم أفهم شيئًا..
في المرحلة التالية أصبحت أبحث عن أشخاص الحادث، وإذا بها نفس المرأة التي استهليت هذه التدوينة بالتعريف بها..
رأيت مشاهد ألبست عليّ فهمي للحالة، بدت أحيانًا تتوسل الزوج الذي يضربها أن تعود له إلى المنزل، وكان يطردها ويرفض طلبها.. تتبع خطواته أحيانًا.. إلى أن يُفرغ عليها ضربًا قاسيًا وتسقط أمام باب منزل إخوتها..
لم يَعُد إخوتها يُسارعون إلى فتح الباب أو يتسابقون لإسعافها وتقديم الرعاية لها، مرةً قال لها أحدهم “في كل مرة ندافع عنكِ وتعودين إليه في اليوم التالي إن دعاكِ وأتى بالهدايا، تسامحينه في كل مرة!!”
سقطت مرة على الشارع وركض الجيران لمساعدتها، واستضافها أحدهم في بيته.. وأنا أنظر إليها.. وأتذكر قول أخيها “في كل مرة….” صعب علي تكوين رأي محدد تجاه المشاهد القاسية التي تكرر حدوثها أمام عيني..
كبرت قليلًا وعلمت أن المرأة مصابة بمتلازمة المرأة المعنفة، أو كما تمت تسميتها فيما بعد بـمتلازمة الشخص المنتهك Battered Person Syndrome ، لأنها تحدث للرجال والنساء على حدٍ سواء..
سبب عدم قدرة الشريك المنتهك من التخلص من معنفه، هو شعور المُنتهَك أنه بذاته سببًا لهذا العُنف وأن شريكه يحاول في كل مرة إصلاح الأمور، لأن الطرف المُنتهِك في هذه الحالة يتسم بصفة مخادعة جدًا وهي الرغبة المزعومة في إصلاح كل شيء في كل مرة.. ومن هذه الحالة تعاني الضحية من فقدان القدرة على تحديد الشخص المسؤول في أي موقف وليس فقط في علاقتها بشريكها المؤذي.. ويتولد لدى الضحية الإحساس بأن شريكه المؤذي موجود في كل مكان من العالم بالتالي لن يتخلص منه، وقد كان هذه الحالة المرضية هي الأساس لدفاع المرأة المنتهكة الذي استعمل في قضايا النساء اللاتي تعرضن للعنف البدني والنفسي ممن قتلن الأشخاص الذين قاموا بإيذائهن.
لم أتجاوز يومًا بكاء تلك المرأة وكلمات النداء والرجاء وطلب النجدة التي كانت تطلقها.. أتذكرها تكتم أنفاسها ثم تشهق بقوة.. يختفي صوتها.. وتسقط.. لم أتجاوز تلك المواقف بعد.. وفي كل مرةٍ أتذكرها أبحث عن تلك الحالة، وقد علمت لاحقًا أن عدة قوانين جعلت متلازمة الشخص المنتهك أحد الظروف المخففة لعقوبة جريمة القتل إن حدثت من الطرف المنتهك..
بعد عدة سنوات، عند دراستي لتلك الحالة بعدّها ظرفًا مخففًا للعقوبة، رأيت متلازمة الرجل المعنّف عدّة مرات، أمام عيني.. رأيتُ امرأة تصرخ وتضرب الطاولات وتكسر الأطباق، وثم تمارس الصمت العقابي.. ورجل يترجاها أن تحكي.. إلى أن يُطرَدَ من المنزل.. ويعود في اليوم التالي.. بعد اعتذارها واقناعها له أنه المخطئ..
رأيتُها مرةً أخذت المفاتيح وأغلقت الأبواب عليه داخل المنزل وأخذت هواتفه وكومبيوتره المحمول منه عنوةً وخرجت من المنزل، قامت باحتجازه، وبعد أن فرغت من العقاب قدمت له طبقًا فاخرًا وباقة ورد وقالت له “في المرة القادمة إن أغضبتني لن يكون هناك ورد ولا طعام..” في كل مرةٍ كان يُطرَد ويعود.. أو يعاد..لم يستطع التخلص من تلك الحلقة التي يدور بها في هذه العلاقة..
كانَ من السهل لمن هم حوله القول “اهرب” “أنهِ هذه العلاقة” لأنهم لم يستوعبوا كم الألم النفسي، والخوف الذي يعيشه، كلّما انقطع عن التواصل وغاب عن الأنظار ظنًا منه أنه سينجو، وسيتخلص من ذلك كلّه، كلّما ظهرت في حياته واحتوته من جديد كما كانت تحتويه دائمًا بعد كل نوبة غضب تجتاحها وتعنفه فيها..
لا أعلم لماذا يدرج الناس حالات مطابقة أو ربما مشابهة لمتلازمة الشخص المنتَهَك تحت وصف “العلاقة السامّة” مرفقًا بذلك الوصف قائمة نصائح لا تستند إلى أي دليل علمي.. ولا أعلم لماذا يمتلئ هذا العالم بالشركاء السيئين مدمني السيطرة والابتزاز العاطفي.. مدمني العلاقات غير المتوازنة وغير الطبيعية.. المُنتهِكين..وكأن القتلة والمغتصبين ومجرمي الحروب لا يحققون الوزن المطلوب لكفّة الشر في هذا العالم فيستنجدون بهؤلاء لمعاونتهم على نصرة تلك الكفّة..