
في كتابها “حول الفوتوغراف” تقول سوزان سونتاغ “أن التصوير فعل مشوب بالحنين، فن رثائي على أشيائنا الحميمية، وأن الضغط على زر الكاميرا يشبه الضغط على زناد بندقية في اقتناصها للحظة مع فارق التشبيه بين الآلتين، فنحن إذا انتابنا الخوف نطلق الرصاص وإذا انتابنا الحنين نطلق الصور”.
وتقول أيضًا “الصور الفوتوغرافية التي تعبث بنظام العالم، تصبح هي نفسها مختزلة، مكبرة، مقتطعة، مرتشة، معدلة ومحتالة” ..

كما يقول لويس هاين “لو كنت قادراً على رواية قصة بكلمات، لما احتجت إلى مشقة حمل الكاميرا” في إشارةٍ إلى أن عجزه عن التعبير بالكلمة هو ما قاده إلى التصوير.. أي أن التصوير يأتي بعد عجز الكلمة..
ينطوي مفهوم التصوير على تجميد اللحظة، أخذها من سياقها وعالمها الحقيقي إلى بُعد آخر ولنقُل إلى البُعد الرقمي، وهنا أود التذكير أن مقتضيات الجيل والفترة الزمنية التي نشأت في ظلها لا تسعفني لوصف الصور غير الرقمية..
إن كل عملية تصوير هي عملية اقتصاص للمشهد للأشخاص والمكان، لنقلها من كونها واقعًا إلى موضوعًا للصورة..
يدور الشعور المتأتّي من مشاهدة الصور الخاصة بنا أو بمن تربطنا فيهم أي رابطة.. حول الحنين.. يرتبط الحنين بشكل دائم بالصور.. كأنما نلتقط الصور لأنفسنا لاجترار شعور الحنين، مرةً بعد مرة..
وبالنظر إلى الصور التي نلعب فيها دور المتفرج ولا دخل لنا بها.. فقد أصبحت هي الواقع لدينا، نبحث عن صور لكل شيء لإثبات وجوده ولكل حدث لإثبات وقوعه.. أصبحت الصورة هي الواقع.. هي الحقيقة.. مع تراجع الواقع وأهمّيته..
تحكم الصور منظورنا إلى عالمنا اليوم، نتزود بأكبر كم منها يومًا بعد يوم، بالتزامن مع سرعة العصر.. وإن لم نتزود بها فإن العالم كأنما يجبرنا على التعرض إليها..
تُشبِعنا ثقافتنا العالمية اليوم بوهم حياد الصورة، كون الصور تستعرض مشهدًا حدث في الواقع وما هي إلا وسيلة لتوثيقه.. مع تجاهل عدم معرفتنا ما يقف خلف تلك الصورة.. نحن لا نرى إلا صورة، لا نعرف ما كان المشهد واقعًا..
لا أتحدث عن التصوير للتوثيق الأمني وغيره من الأغراض، ولا أنكر بطبيعة الحال أهمية التصوير التي برزت من فترة إلى أخرى ..وقد كُنتُ من المغرمين بعدسة المصور الأمريكي لويس هاين.. أتحدث تحديدًا عن الصور في العالم الرقمي اليوم، عن الصورة باعتبارها فنًا أو التصوير باعتباره أحد أساليب نقل الواقع المُعاش.. كما يُفعَل في وسائل التواصل الاجتماعي الآن..
بالمُناسبة، كانَ لويس هاين من رواد التصوير الوثائقي الاجتماعي وقدّم ما قدمه من أعمال ساهمت في وضع تشريعات منع عمالة الأطفال..


ولكن، ماذا بعد تطور علاقة الإنسان بالصورة وعلاقة الصورة بالواقع؟ ماذا عن وضع التصوير اليوم؟ وماذا تمثل الصورة بالنسبة لواقعنا؟ هل تُلغي الصورة الواقع؟ وتصنع واقعًا لا يُقرّ به وبُمنَح وجوده إلا من خلالها..
كما التواصل من خلال العالم الرقمي، فإن الصورة تُلغي التمييز المحسوس لدى البشر بطبيعتهم، بين الحقيقة وما دونها..
نحكم بغريزتنا على المواقف والأشخاص والأحداث.. وهذا ما لا تمنحنا إياه الصور.. المشوبة بالاجتزاء، التعديل، أو حتى التزوير..
يُشعرني الهوس بالتصوير، أنّ الواقع يضيع من بين يدي، وأنّي أبذُلُه في سبيل الصورة.. يُوحي إليّ بتأبين اللحظة.. وأنا لا أريد لهذه اللحظة أن تموت..
لا أريد لهذه المدينة أن تموت في عيني.. لا أريد لهذه اللحظة أن تفلت مني لتستقر في أحضان العالم الرقمي.. لا أريد توثيقًا يشعرني بالتهديد من فقدانها.. أريدها أن تستقر في ذاكرتي.. ووجداني