عطش البُعد..

لم أفكر يومًا أن أدون أي مذكرات.. أو حتى ملاحظات عن السفر.. المطارات.. أو حتى الرحلات.. القصيرة منها أو الطويلة..

أكون غارقة في تلك اللحظات باللحظات نفسها.. وربما أكون مدفوعةً بشعور الرغبة في المغادرة.. الرغبة في البُعد.. وضرورة القطيعة مع أي شيء أفعله في أيامي العادية..

كل شيء في الطريق من منزلنا إلى المطار غير اعتيادي.. على نحو جيد! أول شيء غير اعتيادي هو أنّي لا أقود المركبة.. أركب في المقعد الأمامي بجانب أختي التي استيقظت فجرًا كي لا تفوتني الرحلة.. بينما استغرقت في غفوات متقطعة مع أحلام سيئة ومشاهد مؤلمة وملفات عمل كثيرة أغلقتها بالأمس مع رئيسي.. لكن دماغي يصر على أنها مفتوحةً وقد تحتاج إلى تعديل.. أو ربما وقفة لتأمل كمالها وجمالها؟

الساعة الخامسة والنصف.. أختي تكتب لي بينما أحاول أن أزيح ملفاتي عن ذهني.. وألقي بها على الأرض كي أنهض من سريري..

أنزل الدرج بسرعة لا لأنّي متوترة.. بل لأن تمارين الكارديو هي ما سيمسح عن ذهني ثقل الأحلام والغفوات السيئة وهي ماسيسقط كل الرغبات في التأخير.. ويمسح عن ذهني أخيرا غمامة أي أثر للنوم..

أجمع ملابسي المتفرقة من مناشر الغسيل بينما ألمح أختي من بعيد وقد ركبت السيارة.. أعود للصعود إلى غرفتي ركضًا.. أتذكر أن خطتي كانت أن أصحو في الرابعة فجرًا لتجهيز الحقيبة الصغيرة.. لكنّ ذلك لم يكن واقعيًا ولا عمليًا إذ لم أنم إلا بحلول الرابعة فجرًا.. لا يهم هذا كلّه فأنا ذاهبة لأستريح لا لأن أحمل توتري معي أنّى ولّيت وجهي!!

أحادث نفسي في صمتي وهدوئي بينما أحاول تحدي قوانين الفيزياء بإدخال أشياء أكبر من حجم الحقيبة.. وقد كسبت بعض التحديات لولا أن كومبيوتري المحمول اعترض طريق سجادة اليوغا! غير مهم! أليس لديهم سجادة يوغا في جنيف مثلًا؟ رميتها على الأرض وركضت نحو الدرج.. أحمل حقيبتين مجموع وزنهما معًا ربما يساوي أو يزيد عن وزني.. وفي هذا تحدي لقوانين الفيزياء؟ لا ربما يكون التحدي الحقيقي لعلم الأحياء.. وقدرة الإنسان البدنية..القائد هُنا في هذا التحدي هو الجهاز العصبي الذي أوحى إليّ أن أحمل الحقيبتين بدلًا من دحرجتها على الدرج كي لا يستيقظ مذعورًا أخي الذي يشاركني في حساسية وخفة نومه..

توجهت إلى السيارة وبلحظة ميّزت أذني ألحان الأخوين رحباني.. “أنا لحبيبي وحبيبي إلي..” أحمل حقائبي إلى السيارة وتكمل السيدة فيروز شدوها المتواصل.. الذي لا أظنه انقطع يومًا عن منزلنا..

فأنا أحب فيروز.. لأنها ميعاد قهوتي الصباحية مع أبي.. أو المسائية في أيام عطلات نهاية الأسبوع.. أحب فيروز لأنها سيدة الأغنيات في طرق السفر مع إخوتي.. أحب فيروز وافتقد صوتها إن مرّت بضع أيام لم أسمعه فيها.. أحب فيروز لأن كثيرًا من أغانيها لم يكن أحد ليستمع إلى كلماتها لولا أنها لم تغنها.. ولولا أن تلك الكلمات وصلتنا بإحساس فيروز وصوت فيروز..

ودعت أختي عند المطار الذي أحبه كما أحب فيروز.. عند المغادرة.. احتضنتني وذهبت.. وأنا أجرّ حقيبتيَّ وأنظر إلى الأمام بينما يجري حساب أمتعتي في ذهني.. وتفقّد الأشياء التي لم أحملها.. لم أحمل حقائب لوي فويتون ولا ديور.. ولا أيّ من مجوهراتي المخصصة للاستخدام اليوم -عدا التي أرتديها الآن- .. متخففة من أغلب أشيائي التي تركت في غرفتي.. مع مفتاح سيارتي الذي افتقدته كثيرًا.. كأنما افتقدت شيئًا مهمًا جدًا..

في المطار.. لا أتأمل وجوه الغرباء ولا أحوالهم حتى من بعيد.. أنظر إلى الشاشات وأبحث عن القهوة التي تدلني عليها رائحتها.. أجلس عند انتظار بوابة بصورة عشوائية.. امرأة تسألني “رايحة عمّان؟” أجيبها “لا والله من زمان جدًا ما رحت أصلًا!” أنتبه بعدها أنّي أجلس في انتظار الرحلة المغادرة إلى عمّان.. أعود إلى الشاشة أنتظر إدراج بوابة رحلتي.. وحين ظهر رقم البوابة وإذا بها ذات البوابة التي انتظرت في مساحتها قبل قليل..

أفكر فيما أسمعه بعد قليل.. لأن الطائرة وأي وسيلة تتحرك بي ليست مكانًا للقراءة فدوار البحر ضيف ثقيل وبغيض أكاد أفقد رغبتي في فعل أي شيء إن أتاني بسبب القراءة على متن الطائرة أو الحافلة.. أفضّل استخدام تعبير “على جناح الطائرة” وإن لم تكن أجنحة الطائرة هي المساحة التي نُحمَل عليها.. لكن ذلك التعبير يجعلني أشعر وكأنّي أُحمَل على جناح طائر.. كما في الأساطير التي لم تحد محدودية العلم حينها من مخيلة من صنعوها.. من خلقوا لنا أساطير التراث الإنساني القدير…

نموذج للإفصاح عن بعض البيانات مقدم من سلطات دولة الوجهة بغرض التواصل عند وجود إصابات بكوفيد-١٩

لا تتواصل معي إن علمت أن مريضًا كان بجانبي.. ولا تخبرني شيئًا.. فقد أخذت مني جائحة كورونا (كوفيد-١٩) جهدي.. وقتي وتفكيري.. وكل حياتي لمدة سنة وشهرين.. وأظنني أخذت كفايتي من الاحتياطات حينها.. شكرًا لك لن أفصح عن بياناتي.

في الطائرة.. أستمع إلى كتابي المفضّل وأحد أهم الكتب التي عاودت قراءتها في فترات زمنية متفرقة تزامنًا مع المراحل العمرية المختلفة التي عشت.. أعمدة الحكمة السبعة لتوماس إدوارد لورنس.. كتب لورنس مذكراته في الصحراء العربية.. وسمّى الكتاب باسم أعمدة الحكمة السبعة في وادي رَمْ.. أفكر في الكتابة.. هل أكتب مذكراتي؟ سيرةً ذاتية؟ أم هل أشتاق إلى الصحراء إذا ما قرأت اسم الكتاب؟ هل أشعر بالعطش لمواجهة الصحراء.. لأن أسير في فضائها الرحب.. أتأمل الأفق الأبعد من أي شيء .. وأشعر أنّي حيّ وحرّ جدًا؟

لا، لا أشعر اليوم بالعطش إلى الوقوف في مواجهة الصحراء.. ولا إلى افتراش رمالها كما أحب وتَلَحُّف سماءها.. فقد أخذت منّي الجائحة ما أخذت.. ومنحتني الاكتفاء من الصحراء.. حولتني إلى جوّالة في ربوع بلادي أقطع الصحاري ليلةً بعد ليلة.. وحيدةً أحيانًا في ظلام الليل..

بالإضافة إلى ما منحتنياه ذات الجائحة من اكتفاءات.. فإنها زادت عطشي للمغادرة.. واشتهاء البُعد.. وأنا أستمع إلى كتاب صوتي صادر عن مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية عن عالم الفيزياء بول ديراك.. وصف المؤلف علاقة ديراك بمانس زوجته.. أنه ارتبط بجسمه المضاد حينما ارتبط بها.. في إشارةً إلى اختلافهما في كل شيء.. وتناغمهما الناتج عن ذلك الاختلاف.. تنبهت حينها كم أحتاج إلى جسمي المضاد.. وجهة السفر جسمي المضاد للأصل.. للصحراء..

جسمي المُضاد غير الموجود في دَمِي.. فأنا أحمل الفصيلة التي تمنح.. تمنح كل شيء.. ولا تأخذ.. إلا من ذاتها المِعطاء.

الرحلة تسير على ما يرام.. نامَ الناس.. وأطفئت الإضاءة.. وأنا أُنهي الكتابة كي أهم بعمل إطالاتي وما تيسر لي من التمرين على جناحِ الطيْرِ الطائر..

نظرت إلى الوقت بعد تمريني.. متبقي على الوصول ٤ ساعات و٤٧ دقيقة.. اللحظة المناسبة للنوم.. أم كلثوم تغنّي “أراكَ عصيّ الدمعِ.. شيمتك الصبر..” تناولت وجبة خفيفة ونمت.. لأستيقظ بعدها بنصف ساعة .. سألت المضيف عن دورات المياه.. لم أجد أي علامات للتمييز بين الجنسين.. وتذكرت حينها أنها المرة الأولى التي أضطر فيها لاستخدام حمّام الطائرة..

صورتي على المرآة القريبة مني.. هذا الصفاء الذي أحب تأمله في وجهي.. آثار النوم على ملامحي وبشرتي.. ربما يكون سبب حبّي لآثار النوم علي هو أنّي قليلة النوم -إن نمت-.. أبتسم للمرآة.. وأخرج أترنّح من تأثير النوم.. لا، من سوء الظروف الجوية..

وصلت مقعدي بصعوبة وبدأت بتشغيل فيلم.. تناولت قطعة مافن مع قهوة واستعدت تركيزي.. ما إن انسجمت مع الفيلم حتى قاطعني إعلان الطائرة “نأمل من الركاب التزام مقاعدهم وربط الأحزمة نظرًا للمرور بمنطقة تقلبات جويّة”..

فتحت النافذة لتُسحَر عينيَّ بجبال الألب الفاتنة.. وليسرق قلبي مشهد الثلوج المتناثرة على قممها… وأطرافها.. ولأتذكر أن أحد العقائد الراسخة لدي “عبادة الجمال” وإن كُنت لا أُصلّي في محرابه.. ارتسمت على شَفتَيَّ ابتسامة الاستسلام وأنهيت ملء النموذج.. تفضّل بياناتي.. لن يحول شيء بيني وبين هذا الجمال…

%d مدونون معجبون بهذه: