المدينة المتوحدة.. بذاتها

Nighthawk- Edward Hopper (1882-1967).

يقول إدوارد هوبر عن أعماله ” إن العديد من لوحاتي كانت مستلهمة من المدينة..إنها قطعة من نيويورك بكل بساطة، هذه المدينة التي تثير اهتمامي جدًا”.

“أكثر لوحة نملكها إثارةً للمشاعر، وأكثر لوحة رومانسية تم إعادة استدعائها لتصف بدقة الشعور بالوحدة في أمريكا” -جويس كارول أوتس، عن Nighthawks.

كثيرًا ما شغلتني لوحة الفنان الأمريكي إدوارد هوبر “صقور الليل”.. بالإضافة إلى عدّة أعمال لهوبر أبرزها:

Automat by Edward Hopper (1927).
Office in a small city by Edward Hopper (1953)
New York office by Edward Hopper (1962)
Gas by Edward Hopper (1940)

في الفترة التي سبقت الإغلاق العام على إثر جائحة كورونا (كوفيد-١٩) كُنت أستعد للعودة إلى أرض الوطن بعد الاحتفال برأس السنة، وقدمت ترجمة عدة مقالات وأخبار عن فيروس كورونا (كوفيد-١٩) الذي لم يُدخِل العالم في طور الجائحة بعد -حينها-.. وفي ظنّي كنت أعتقد أنه أقرب ما يكون إلى كورونا “ميرس”.. لم أفكر كثيرًا في أمره.. لكنّي ولسبب آخر أُصبت وقتها بحالة من تأمل شخصيات هوبر كل صباح.. كنت أحاول الغوص في تصوير هوبر للشعور بالوحدة.. من خلال إطالة البحث عن أعمال هوبر، كان للذكاء الاصطناعي كلمته في تعرّفي على أعمال المصوّر الأمريكي هو الآخر ريتشارد توستشمان..

توستشمان هو مصوّر فوتوغرافي معاصر.. وكما أقول دائمًا أن التصوير الفوتوغرافي لا يشدّني ويحصل على اهتمامي إلا حين يكون مرتبطًا بالرسم.. لدى توستشمان مشروع أسماه “تأملات هوبر” Hopper Meditations يصوّر فيه مشاهد أشبه ما تكون بأعمال هوبر، وأحيانًا تكون محاكاةً لتلك الأعمال..

Hopper Meditations- Richard Tuschman
Hoppers Meditations- Richard Tuschman

وعن علاقته بأعمال هوبر يقول توستشمان”لطالما أحببت الطريقة التي تستطيع بها لوحات هوبر -مع قلّة الوسائل- معالجة بعض الألغاز النفسية وتعقيدات الحالة البشرية، أحب الطبيعة المتواضعة للأعمال وإحساس الهدوء الذي ينطلي عليها”.

فيما بعد الجائحة التي أرهقني كثيرًا كتابة اسمها كاملًا واختصاراتها، وقد يكون أرهقك أيها القارئ ذلك، أو ربما سئمت من قراءته أو حتى تذكر تلك الفترة بقراءته.. لكنّي كنت أكتبه بصورةٍ يومية ملحقًا بالاختصارات وموضّحًا بصياغاتي..

حالما رُفِعَت القيود على التجوّل في مدينتي.. قرأت عدّة كُتُب.. من بينها “المدينة الوحيدة: مغامرات في فن البقاء وحيدًا” لأوليفيا لانغ.. أكثر ما أحببته في سرد أوليفيا لانغ ليومياتها في نيويورك.. هو أنها بدأت رحلة شفائها الطويلة بالتعرف على أعمال هوبر وثلاثة فنانين أمريكيين آخرين كانت الوحدة هي الثيمة المشتركة في أعمالهم الفنّية.. أخبرتنا أن الفن لا يمكنه إحياء الموتى، ولا حل مشكلة الاحتباس الحراري لكن له القُدرة على خلق الأُلفة وشفاء الجروح، وهو يوضح لنا أحيانًا أن ليس كل الجروح بحاجةٍ إلى الشفاء..

By KEVIN FLETCHER ,2020
المشهد الموصوف أدناه، جنيف ٢٠٢١

تنبهت فجأةً وأنا أكتب هذه التدوينة أنّي تحدثت كثيرًا عن العام الماضي، العام ٢٠٢٠ الذي لم يحصل على نصيبه من حديثي الواقعي عنه.. إنّ ما ذكّرني بذلك كلّه، مساء الحادي عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني ٢٠٢١ الخامسة مساءً بتوقيت جنيف، خرجت لتناول وجبة تعويض عن وجبات عدّة مؤجلة لا اسم لها، كل ما يميزها هو كميتها الكبيرة وسعراتها العالية، وأنا على المقعد وحيدةً تأملت الشارع.. ورأيتني إحدى نساء هوبر، رأيت المشهد والألوان، المقاعد والرجُل في المقعد البعيد، الإضاءة.. وكل شيء..

عُدت إلى مكانِ إقامتي ولم أرغب في إكمال وصفي للمشهد.. تقدمت لمدّ قدمي على أطراف سوار البلكونة وإطلاق يدي باتجاه أفقي مِثل جناحين -اختبار التوازن واللياقة الخاص بي- وبقيتُ أتذكر اليوم.. الأمس.. وقبل عامٍ من الآن.. تضلل ذكرياتي بهجة المنظر وحُسنَ المنقَلَب.. يسحرُني جمال هذه الأرض.. وبهجتها.. وزهوها.. للحد الذي لا أشعر فيه بشيء سوى الامتلاء بالجمال..

Genève, Autumn🍂 2021

استكمالًا لتأملاتي في المدينة الوحيدة.. مشيت هذا الصباح باكرًا جدًا، مارست تماريني -بما فيها اليوغا- في الهواء الطلق.. تسنّدتُ بهذا المقعد في بعض التمارين.. وكُنتُ إذ أُحيّي الشمس، أُحيّي الجدةَ الشجرة..

ليست سيئة هذه المدينة لوحدتي، لأنها متوحدة، بكل ما تحمله من جمال.

%d مدونون معجبون بهذه: