
أتأمل الجدار.. أتأمل السقف.. أتأمل الفراغ.. وأنظر لكل الأشياء من حولي، بتفاصيلها..

ما إن أفتح النافذة حتى أميل برأسي مع ضوء الشمس، أحدق في الأشياء الساقط عليها.. أتذكر أن سرعة الضوء سبقت التفاتة عنقي، لكن قوانين الفيزياء ليست تحت سيطرتي..
وُلِدت متأملًا.. أتأمل كل شيء.. وأفكر في كل شيء.. وأؤمن كثيرًا أنّي أشعر بكل شيء..

أنظر بحدّة على مدى نظري.. إلى الأفق البعيد.. أنظر ويتراءى لي العالم كلّه على مدّ ذلك الأفق.. تتراءى لي حياتي تسير بخط طويل وخطى واسعة عمودية على ذلك الأفق. وأرى حياة كل من تقاطعت معهم في خطي الزمني، مثل محطات على الطريق لذلك الأفق، عن شرقي وعن غربي، بينما أقطع طريقي العمودي باتجاه الشمال، للاقتراب من نهاية الأفق، أفكر كثيرًا في خط الاستواء.. أفكر فيه ولا أعلم يقينًا هل مررت به سابقًا؟
في كل مرة يتقاطع بها طريقي مع الآخرين في ذلك الأفق يخيّل لي أنّي قطعت خط الاستواء وتجاوزته ومضيت في طريقي نحو الأفق، لكنّي كلما زادت قيمة مسيري على آلة حساب الزمن كلما وجدت محطات أخرى لا أعلم أهي قبله أم بعده!
في بادئ الأمر كان الوقوف عند محطات التقاطع على الجانبين يحدث بعض التغيّرات في رؤيتي، كأن تصبح رؤيتي لطريقي ضبابية أحيانًا، وأن أفقد الرؤية أحيانًا أو أن أراها طريق مقفلة.. وفي كل مرة أحمل حقائبي وأعود لأركض في طريقي وحيدةً حتى تعود لي الرؤية…
قبل خمس سنين، وأنا ابنة الواحد وعشرين ربيعًا، ذات صباح.. عُدت من المحكمة باكرًا، ولم يزل في الصباح متسع لتأمّلي، وقفت على نافذتي أنظر إلى الأفق بثقة عالية ألحّت علي أن أزيد من سرعتي في المسير، حتى وصلت ذلك التقاطع، كانت المحطة الأغرب في طريقي، مكثت فيها عدّة ليالٍ سعيدة، راقصة أغنّي لم ألحظ ظلام الليل ولم تسؤني حدة ضوء الشمس، عقدت العزم أن أترك السير باتجاه الشمال كما تشير بوصلتي، وأعد هذه المحطة طريقي وأحاول تغيير اتجاه بوصلتي أو تعطيلها إن لزم الأمر، ولم يطل الأمر كثيرًا حتى تبيّن لي أن هذه المساحة خاضعة لسلطة قاطع طريق، وأن المُضيف كان فردًا في عصابة قطع طريق -كما يقول “ليس باختياره”- وأن الفترة الماضية كان قد تاب لله في غياب زعيم عصابته التي انضم إليها منذ عام!..
خرجت من المحطة باتجاه طريقي مسرعة، أحمل معي صدماتي، وإصاباتي التي أثقلت مشيتي وأبطأت سرعتي..ولا أعلم ما فعلت برؤيتي، لم أعد أرى إلا الضباب في طريقي، وكلّما حاولت أن أستجمع قواي وأزيد من حدة بصري وأستخدم ما أوتيت من قوة وما تيسر لي من أدوات، كلّما عملت الذاكرة على إعادة تلك الذكرى..
تمتلئ لياليّ بالدموع التي تجلب الضباب إلى عيني، ولا يوقفها إلا صاحباي عليها في طريقي، عملي وفضولي المعرفي، هما ما يضيء لي الطريق وما إن ينطفئ أحدهما أو يتوقف الآخر في عطلة قصيرة حتى أرى تلك المحطة تلحق بي وتضع نقاط التقاطع من جديد وتأتي بالآلام وتمحو الآمال كافة.. يدعوني في كل مرة كما يدعو تائب ربّه، وفي كل مرة أحاول التخلص من الألم، أحاول تعطيل خواص الاستجابة، أحاول المضي قدمًا وترك كل شيء..
كأن الصوت اختفى وكأن الطريق بكاملها رحلت، أخرج من لوحة التأمل، لا أريد أن أرى تلك الطريق التي تعكر صفو تأمّلي.. أعود لأراها كلما شعرت بحنين.. وكلّما حاولت ذاكرتي استعراض قوتها علي.. وكلما صدقت توبة التائبين.. وفي كل مرّة أعِدُ نفسي ألا أكتب كلّما شعرت، لكنّي أعود للكتابة لأسباب عدّة..
أكتب اليوم لأنّي لم أعد قادرة على سماع صوت التائب، لست ربًا حتى أقبل بالغفران، لم أُمنَح القُدرة على الغفران لأنّ نفسي لم تهن علي مثلما هانت عليكم أنفسكم، يا من تغفرون لمن قتلوا أجمل مافيكم وتطلبون منّا الغفران لنكون بلا قيمة أسوةً بكم.
وأنا أتأمل الأفق هذا اليوم، عقدت العزم على أن أكتب كلّما شعرت.. وأن أكتب الرسائل إلى ذلك الأفق، لا إلى محطات الطريق، في جميع السياقات،،
وألا أفكر في خوف الشاعر عندما شعر أنه ترك جزءًا منه في قصيدة،، أن أحرر مشاعري كلما شعرت..
وأن أكتب كلّما تأملت، وكلما فكّرت..