لم أولد في الظلام، ولن أقبل التشكّل فيه..

By Thomas Thorspoken

في المرة الأولى التي دخلت فيها عالم مواقع التواصل الاجتماعي كنت في عمر الثانية عشرة، تحديدًا في العام ٢٠٠٨ قضيت أول محطاتي في التواصل مع العالم الافتراضي على منصة فيسبوك، وقتها كان التواصل لم يزل يعتمد بشكل أساسي على الكتابة، فيما لم يكن الموقع يوفر خاصية الملاحظات الصوتية، وكان المستخدم يستطيع مشاركة الصور والفيديو.

اعتماد التواصل وقتها على الكتابة شد انتباهي له، لأمارس هوايتي في الكتابة، لم أستسغ وقتها خاصية التشات أو المحادثة المباشرة، أصبحت أقضي وقتي على الإنترنت بين مدونتي على Windows live space وبين فيسبوك، تطوّرت علاقتي بفيسبوك بسبب متابعتي لصفحات خاصة بلاعب التنس الماتادور رافاييل نادال إلى جانب بقية الرياضيين الذين أحب.

في نهاية بطولة العالم لسباقات الفورمولا وان شتاء ٢٠٠٨ لاحظت عدم وجود حساب لسائق رينو البرازيلي نيلسون بيكيه جونيور، بحثت عن اسمه ليظهر لي حسابه على موقع بواجهة غريبة بعض الشيء “اوكيه هذا تويتر!” قلتها ومن ثم انضممت إلى عالم المغردين بضغطة زر لأجل متابعة نيلسون! خرجت من التطبيق مسرعة! شعرت أن التايم لاين خط سريع والمحتوى المكتوب يسير بسرعة قصوى! لم يروقني تويتر ولم أكرر استخدامه -إلا في الدخول إلى ملف نيلسون!-.

في السنة التالية توطدت علاقتي بفيسبوك نتيجة التقائي بصديقتي ميعاد، أصبحنا نقضي أوقات لا بأس بها في المحادثات ومشاركة الأحاديث الجانبية عن حسابات مستخدمي فيسبوك ممكن يعيشون على إزعاج المستخدمين الآخرين! أتذكر مرةً بعد أن ألغيت التواصل مع أحدهم كتب لي “مو كل كلام حلو وراه نية سيئة، بالتوفيق لك” وكانت هذه العبارة أغرب شيء سمعته في حياتي وقتها! كيف لشخص أن يزعجني ويحاول فرض أحاديثه علي في كل الأوقات وإن لم أرد قال “مشغولة؟” من هذا الشخص أصلًا؟ هل هو إنسان حقيقي؟ “ماهذا الكم الهائل من الغباء؟ ومادخل الموايا؟” قلتها لميعاد في اليوم التالي، أثناء قضائنا لفترة “حش أهل فيسبوك”.

مع انغماسي في أنماط التواصل الافتراضي وزيادة المحتوى الذي أتعرض له نتيجة لزيادة متابعتي للصفحات وزيادة قبول الأصدقاء، لاحظت انطفاء شغفي في التصميم الذي كنت أقضي جل وقتي على الكومبيوتر عليه منذ المرة الأولى التي استخدمت فيها جهاز الحاسب في عمر السبع سنين، ثم لاحظت أنّه فاتني بعض التحديثات في عالم المدونات وبعض التحديثات في التطبيقات! بتّ لا أعرف خصائص وتفاصيل كل برنامج! غضبت من فيسبوك وقررت الانسحاب منه عام ٢٠١٠.

قضيت فترة ليست قصيرة بعيدةً عن العالم الافتراضي، وأتعمد قول افتراضي لأنّي لم أشعر يومًا أنه عالمًا حقيقيًا، ولم يكن الأمر مرتبطًا بماهية خياراتي لما أتابعه فقد كنت أحب جدًا اهتماماتي وأتابعها بدقة وكنت أطور مهاراتي باستمرار بما فيها الكتابة.. لكنّي أتحدث هنا عن مفهوم “التواصل” في هذا العالم، هناك غرابة لم أتقبلها فيه، شعور غير مريح طوال وجودي على هذه المواقع، توقف هذا الشعور عندما توقفت عن استخدامها وعملت على إعادة الاهتمام بهواياتي بما فيها القراءة، قرأت الكثير وقتها، وتعلمت الكثير، وكنت أقضي أوقاتًا ممتعة، وهنا أتحدث عن مواقع التواصل تحديدًا ولا أقصد المحتوى الرقمي الغني جدًا، والذي فيما بعد أصبحت أعتمد عليه في قراءتي وبحثي.

ولا أنفي بطبيعة الحال ثراء منصات التواصل بالمحتوى المفيد، أتحدث عن الهدف الرئيسي من وجود منصات التواصل، وحتى طريقة التعاطي مع المحتوى المفيد على منصات التواصل الاجتماعي فإن الهدف من وجود هذه المنصات أو لنقل من وجود المحتوى الجيد فيها يتمحور حول الشخص صاحب المحتوى، تلعب الصفحة الشخصية للمستخدم دورًا محوريًا في تضخم الـEgo لديه، وإذا أخذنا النظرية البنيوية بعين الاعتبار فإن الصفحة الشخصية تمثّل Super-ego، لا يتعلق التواصل المزعوم في تلك المنصات بالآخر بل بالأنا في جميع تقسيماتها، وبعيدًا عن النظرة الشائعة القائلة “أن الأشخاص يبدون على طبيعتهم في العالم الافتراضي على عكس ما يبدون عليه في الواقع”، فإن الأشخاص في ذلك العالم الأكثر غرابةً ليسوا من الواقع في شيء.

صحيح أن التواصل على أرض الواقع لا يجعلنا نعرف دواخل الأشخاص، ولكن الحضور الفيزيائي للأشخاص أمامنا يمكّننا من استقبال إشارات عدّة تساهم في تكوين تصوّرًا عنهم، دون أي تأثير مسبق لأي صورة ذهنية أخرى عن أولئك الأشخاص، على عكس اللقاء بعد توهم معرفة الشخص من خلال ملفّه على تويتر مثلًا! تؤثر الصورة التي تخلقها المنصات للشخص على تصوراتنا الطبيعية وتضعنا تحت ضغط التبرير لكل السلوكيات التي تصدر من ذلك الشخص بزعم معرفتنا الحقيقة له ولما في داخله، تحجب عنّا تلك التصورات والمعرفة المتوهمة الإشارات الحمراء وتمنعنا من التصرف على نحو بديهي مع تلك السلوكيات.

لا يمتلك تويتر نواقل عصبية ترسل نحوك المعلومات عن انعدام توازن صاحب هذا البروفايل نتيجة لتعاطيه كميات كبيرة من مؤثرات عقلية، مثلًا! لا يخبرك تويتر بأن هذا الشخص يرتجف ولا يستطيع إكمال الجمل التي يكتبها، لا لأنه يعاني من التأتأة، بل لأنها ببساطة ليست له!

زيف منصات التواصل يوازي زيف الواقع المُعاش ويتجاوزه سوءًا بمراحل، غير أن الواقع يكشف كثيرًا مما لا تكشفه تلك المنصات! الملف الشخصي المنمق قد يكون الحيلة الدفاعية للعاجز عن عيش هذه الحياة بأكملها ليشعر بأن هذا البروفايل عرش مملكته الوهمية المزيفة الهشة التي يعرضها للانهيار ضغطة زر واحدة.

وإلى جانب كل السلبيات أعلاه يمتد تأثير تويتر السلبي إلى التأثير سلبًا في مهارة الكتابة، بسبب الاضطرار إلى الإخلال بالنص اختصارًا للالتزام بعدد الأحرف المسموح به، وهذا يبرر إنتاج النصوص القبيحة “السريعة” للتسابق في الخط الزمني.

إن دلالة معنى الخط الزمني توحي إلي بالركض سباقًا مع زمن لا أقوى على مسابقته، الركض المستمر والمتواصل نحو طريق منحدرة ما إن تسير باتجاهها حتى تشمئز من قُبح المنظر وتحجب عنك الأفق ضبابية الرؤية..

By Thomas Thorspoken

يصبح تويتر القبيح الأكثر جمالًا والأقل قبحًا بين المنصات، إن تذكرت سناب تشات، الذي يجعل من مشاهدة شخص يسكب القهوة محتوى يستحق المتابعة!

في كل المرات التي أغيب فيها عن مواقع التواصل، أعود لسبب وحيد فقط، هو نداء الصديقات اللاتي فرقت بيننا المسافات الواقعية ولم يبق لنا سوى التمسّك بالوجود الإفتراضي، وفي كل المرات لم أشرح يومًا أنّي أفضّل عيش اللحظة بدلًا من توثيقها، أفضّل تخزين هذه المشاهد في ذاكرتي الشخصية لا ذاكرة الهواتف ولا صفحات تلك المنصات، أشعر بأجزاء الطاقة وهي تتسرب وتفقد المواقف واللحظات معناها إذا مسكت الهاتف لتوثيقها، في أول مرة تأملت المشهد البديع لجمال باريس على نهر السين، لم أتمكن من استخدام هاتفي أبدًا ولا حتى النظر فيه! كنت أحرص دائمًا على عيش اللحظات السعيدة بعيدًا عن الهاتف، كان توثيقي يقتصر على المشاهد العادية، والروتين اليومي، والصور الجماعية مع عائلتي أثناء السفر.

اليوم أشعر بأن اللحظة العادية يجب أن تكون تحت يدي، وأن أعيشها وأشعر بها كاملةً دون عناء التوثيق، كنت أنتعش حينما أسمع من صديقاتي عن تأثير تماريني إيجابًا اليومية -الصباحية على وجه التحديد- على أمزجتهن ودعواتهم لي بالاستمرار، وبقدر ما أقدر هذا وما أشعر به من ذنب عند الانقطاع، إلى أنّي اليوم بحاجة إلى ذلك الانقطاع أكثر من أي وقت مضى، مختارةً.

مع أزمة توقف خدمات فيسبوك الأخيرة، قرأت مقال الكاتب معاذ العميرين بعنوان “فهم مواقع التواصل: امتدادات الإنسان في العالم الرقمي” الذي أجّلته كثيرًا، في سياق شرحه للفروقات بين الجيل الدي ولد في ظل العالم الرقمي والجيل الذي هاجر فيما بعد إليه، لفت انتباهي اقتباسه من فيلم (صعود فارس الظلام – ٢٠١٢م) حين أحاطت الظِلال بشخصية بين وقال مُخاطِبًا باتمان في العتَمة: “أنت بالكاد تأقلمت مع الظلام. أنا ولِدت فيه. تَشَكّلت به”، شعرت حينها أنّي أرفض التشكّل في هذا العالم ربما لأنّي ببساطة لم أولد فيه ولا أريد له أن يقودني إلى أي شيء، لا أحب أن يقودني شيء ولا أن يستهلكني شيء.

هذه ليست دعوة لشيطنة منصات التواصل أو محاولة رؤية الجانب القبيح منها دون ذكر فوائدها، هي فقط مشاعري تجاه التواصل مع العالم الافتراضي وتجربتي الشخصية الخالصة والغالب عليها الشعور بالغثيان من زيف تلك المنصات وتكلفها وتضخيمها لمن لا يساوي في مقاييس العالم الحقيقي شيء، أو من هو ليس شيئًا بالأساس.

%d مدونون معجبون بهذه: