
“تُنسى كأنك لم تكن..
تُنسى كمصرع طائر
ككنيسة مهجورة تُنسى..”
“تُنسى كأنك لم تكن
شخصاً ولا نصاً
وتُنسى..”
“تُنسى كأنك لم تكن
خبرًا ولا أثرًا .. وتُنسى”
“فأشهد أنني حيّ وحرّ
حينَ أُنسى!”
الكلمات أعلاه للشاعر محمود درويش، من قصيدته “تُنسى كأنك لم تكن”..
لم أضمّن مقدمة المقالة الأبيات أعلاه لتحليل النص الأدبي
أو الحديث عن جماله، ولكني أحاول أن أتصور، هل يمكن لك أن تُنسى في العالم الرقمي اليوم؟ هل يمكنك اختيار النسيان؟
والأهم من ذلك كلّه “هل لك الحق في النسيان؟” في “أن تُنسى” “وأن تُمحى بياناتك من مواقع التواصل الاجتماعي ومحركات البحث على الإنترنت” خصوصاً في ظل التسارع الهائل في نقل المعلومات من وإلى مواقع التواصل وتسارع نقل البيانات فيما بينها.
“بدون خصوصيتنا، نفقد كرامتنا كأشخاص”
-تشارلز فريد، ١٩٦٨.
في عام 2014 أصدرت محكمة العدل الأوروبية حكما قضائيا ضد عملاق الإنترنت غوغل يقضي بإلزام الشركة بحذف بيانات المدعي من محركات البحث التابعة لها استنادًا لحق النسيان الأوروبي.[2]
استندت محكمة العدل الأوروبية في هذا الحكم وأحكامها التي أقرت الحق في النسيان على المادة الثامنة من المعاهدة الأوروبية لحقوق الإنسان والتي تضمنت صون الحق في الخصوصية والحياة العائلية للشخص، كما أسندت بعض أحكامها في هـا الشأن إلى قواعد قانون حماية البيانات.[3]
ولكن حكمًا مثل هذا يجعلنا نتساءل على أي أسس بني وإلى ماذا استندت المحكمة في إصداره؟
والأهم من هذا هو السؤال عن سبب ندرة هذا النوع من الأحكام ولماذا لا نسمع بها بكثرة؟
وهل يشمل نطاق تطبيق الحكم محركات بحث غوغل في جميع أنحاء العالم أم يقتصر على منطقة بعينها؟
تحليل قانوني لفكرة “حق المرء في أن يُنسى”:
بدأت القصة مع رجل إسباني يدعى ماريو جونزاليس تقدم بدعوى ضد عملاق الإنترنت غوغل وصحيفة إسبانية لحذف صفحات تحوي بيانات عنه تم نشرها في الصحيفة في عام ١٩٩٨وفيما بعد تم نشر هذه الصفحات على الإنترنت، فما إن يقوم أحدهم بكتابة اسم جونزاليس في محركات البحث على الإنترنت حتى تظهر له تلك الصفحات التي تتحدث عن المزاد العقاري الذي أقامته السلطات من ضمن إجراءات الحجز على أمواله لاسترداد ديون الضمان الاجتماعي المستحقة عليه -آنذاك- أقفلت القضية وتمت تسوية الديون لكن جونزاليس لا يزال يعاني من أمر وجود تلك القضية في سجلات محركات البحث كلما قام بكتابة اسمه على الإنترنت، تمسك جونزاليس بحقه في الخصوصية كما جادل في نزاهة المعلومات المنشورة حيث أنه ليس من العدالة ربط اسمه بقضية انتهت ولم تعد تمثل حالته وما هو عليه اليوم.[1]
قررت المحكمة إلزام شركة غوغل بحذف الروابط المتعلقة بتلك الصفحات من نتائج البحث في محركها نهائيًا، ولكن الصحيفة يمكنها الاحتفاظ بالبيانات المنشورة على موقعها.
وسببت المحكمة الحكم بأن الصحيفة لديها الحماية تحت قانون حماية البيانات الأوروبي والذي يوفر الحماية وبعض الاستثناءات للأعمال الصحفية، لكن غوغل لم يتم تكييفها بأنها شركة إعلامية، ورأى القضاء بأنها جامع بيانات بناء على عملها في جمع ومن ثم معالجة البيانات التي تحتوي على معلومات عن الأشخاص، ومن التزامات من يجمع البيانات بهذه الطريقة تحت قواعد حماية توجيه البيانات في الاتحاد الأوروبي المسؤولية عن حذف البيانات غير الملائمة أو غير المتعلقة بالشخص، أو التي لم تعد متعلقة به كما في قضية جونزاليس حيث انتهت قصته مع الديون ولا جدوى من تركها ترتبط باسمه طوال هذه المدة..
بينما يوجد في المملكة المتحدة مبدأ قانوني تحت قانون “إعادة تأهيل المجرمين” يقضي بأنه بعد فترة من الزمن تنقضي الإدانة عن الجريمة الجنائية في عدة جرائم، ولا يتم الإشارة إليها عند التقدم للحصول على وظيفة أو تأمين أو إجراءات مدنية لمن قضى فترة الإدانة، وفقًا لهذا المبدأ يعتبر تكرار محركات البحث لعرض البيانات غير المرغوبة عن الأشخاص في ماضيهم والتي انقضى أثرها انتهاكًا لحقهم في الخصوصية.
فرنسا أيضًا لديها نفس المبدأ القانوني “Le Droit d’oubli”.
لاحقًا في العام ٢٠١٦ فرضت اللجنة الوطنية للمعلوماتية والحريات “هيئة تنظيم البيانات الفرنسية” غرامة قدرها ١٠٠ ألف يورو على غوغل لعدم التزامها “بحق النسيان” في جميع محركاتها، وأفادت اللجنة بأنه ضمانًا لحق الشخص المعني فإن الشركة ملزمة بسحب الروابط من جميع نسخ محركاتها على جميع النطاقات وليس فقط في الاتحاد الأوروبي ليتحقق الهدف من إقرار حق النسيان وحتى لا تظهر المعلومات غير المرغوبة عن الشخص في مكان آخر من العالم.
استأنفت غوغل ضد القرار أمام محكمة العدل الأوروبية وطلب محاميها اقتصار نطاق القرار على محركات البحث التابعة للشركة في دول الاتحاد الأوروبي وذلك من أجل تحقيق توازن منطقي بين حق الناس في الوصول إلى المعلومات والخصوصية -على حد تعبيره-
وقد احتجت الشركة بأن دولاً استبدادية خارج أوروبا قد تستغل طلبات سحب الروابط عالميا للتغطية على الانتهاكات الحقوقية المرتكبة فيها.
كسبت غوغل حكم الاستئناف لصالحها وأصبح حق النسيان ينطبق في النطاق الجغرافي لدول الاتحاد الأوروبي فقط مما يمكن المستخدمين خارج الاتحاد الأوروبي من الوصول إلى الروابط المسحوبة بموجب الحكم القضائي بالإضافة إلى إمكانية استخدام في بي إن والحصول على المعلومات التي يفترض أنها أصبحت في طي النسيان، مما يضعف فكرة الحق في النسيان ولا يمنح الحق كما هو لأصحابه.
الجذور الثقافية لفكرة “حق المرء في أن يُنسى”:
في العصور التي سبقت ظهور التشريعات بشكلها الحديث كانت الأخلاق وحدها ما يمثل ضمير الشعوب، وبعد أن حل القانون محل الأخلاق في وظيفة الضبط الاجتماعي، أصبح القانون يمثل ضمير الشعوب، تغضب الشعوب غضبًا جماعيًا تجاه مخالِفِه مثلما كانت تواجه مخالفي القيم الأخلاقية السائدة بالنبذ أو الطرد من الجماعة.
لذا غالبًا ما تسن التشريعات متسقة مع ثقافة وأفكار ووجدان الشعوب وعليها أن تكون مواكبة لتغيُّر الواقع الذي تعيشه تلك الشعوب.
ويتم تفسير الاختلافات في القوانين بالاختلافات الثقافية بين سكان الدول وشعوبها، وعلى افتراض ارتباط الحق في النسيان بالكرامة الإنسانية من جهة وارتباطه من جهة أخرى بحرية التعبير وحرية الحصول على المعلومات، فينبغي التذكير هنا بأن مفهومي الكرامة والحرية يختلفان باختلاف الثقافة أيضًا.
جيمس ويتمان هو محام وأستاذ القانون المقارن والقانون الأجنبي في جامعة ييل، في دراسته “الثقافتان الغربيتان في الخصوصية: الكرامة مقابل الحرية”[2] يناقش ويتمان الجذور الثقافية للفروقات في قانون الخصوصية وقانون حماية البيانات بين الثقافة الأمريكية وثقافة دول غرب أوروبا ويفترض أن قانون حماية الخصوصية الأوروبي يركز على مفهوم الكرامة بينما ينصب تركيز غايات قانون حماية الخصوصية الأمريكي على الحرية.[3]
أقتبس من ويتمان قوله “لدينا حدس يتشكل من خلال القيم القانونية والاجتماعية السائدة للمجتمعات التي نعيش فيها على وجه الخصوص”[4]
يختلف فهم الحق في الخصوصية بين أوروبا وأمريكا، إذ تتمسك القوانين الأوروبية بفكرة الخصوصية حمايةً لكرامة الإنسان، في حين تقر القوانين الأمريكية الخصوصية بالقدر الذي لا يتم فيه انتهاك حرية التعبير وحرية الحصول على المعلومة.
وإذا أخذنا بعض الأمثلة للفروقات بين الثقافتين الأوروبية والأمريكية في مفهومي الخصوصية والحرية فإننا نجد أن هناك اختلاف جذري في فكرة تدخل الدولة في خصوصيات الأفراد بين الثقافتين، على سبيل المثال: في ألمانيا تحدد بعض القوانين الأسماء التي يسمح للأبوين منحها لأبنائهم[5]، بينما لا وجود لمثل هذه القوانين في أمريكا.
وفي فرنسا وألمانيا -وفقًا لدراسة حديثة- يتم التنصت على الهواتف بمعدل عشرة إلى ثلاثين ضعف معدل التنصت عليها في الولايات المتحدة[6] – وفي هولندا وإيطاليا، بمعدل 130 إلى 150 ضعفًا. كل هذا سيجعل الكثير من الأمريكيين يسخرون من الادعاء بأن الأوروبيين لديهم فهم أفضل للخصوصية إذا كانت الدولة لديها الحق حتى في إملاء الأسماء التي يمكنهم إعطائها لأطفالهم؟
يناقش بعض المهتمين بحرية التعبير – من الأمريكيين- أن حق النسيان الأوروبي يعمل ضد حرية المعلومات وضد حرية التعبير عن الرأي، علّق الصحفي الأمريكي والأستاذ جيف جارفيس على قرار محكمة العدل الأوروبية بشأن الحق في النسيان بأنه “ضربة ضد حرية التعبير”.[7]
وهناك من يستخدم مقولة “everything that happens must be known”
“كل ما يحدث يجب أن يُعرَف” للوقوف ضد هذا الحق.
ختامًا..
وبعيدًا عن أحكام محكمة العدل الأوروبية في شأن الحق في النسيان والذي أفضّل تسميته بـ “حق المرء في أن يُنسى” الأحكام التي أراها لا تزال هشة ولا ترتقي لأن تؤسس لمبدأ قضائي ثابت في ذلك الحق، خصوصًا بعدما أصدرت ذات المحكمة حكما ثانيا ذي صلة بالحق في النسيان، ينص على أنه لا يجب إزالة الروابط تلقائيا لمجرد أنها تحتوي على معلومات بشأن الحياة الجنسية لشخص ما أو إدانة جنائية، وبعدما أصبح البعض يعتبر “حق النسيان الأوروبي” مجرد محاولة من جانب أوروبا لمراقبة عملاقة التكنولوجيا الأمريكية خارج حدود الاتحاد الأوروبي.
وبصرف النظر عن الجذور الثقافية التي أقرت بوجود هذا الحق أو نفته، فإن للمرء الحق في اختيار الصورة التي يظهر بها أمام العالم اليوم، ومن غير المنطقي أن يكون لمحركات البحث الاحتفاظ بمعلومات تؤثر على مسار حياة الإنسان وهي لم تعد مرتبطة بما هو عليه الآن، ويجب ألا يكون الحق في النسيان مقتصراً على المعلومات غير الملائمة أو غير المتعلقة بالشخص، أو التي لم تعد متعلقة به، بل يمتد إلى المعلومات التي قرر الشخص التوقف عن مشاركتها الآخرين، وتتعقد المسألة كثيرًا إذا ما فكرنا في الأطفال الذين لم يوافقوا على الظهور في مواقع التواصل الاجتماعي وتم تصويرهم من قبل ذويهم، أو القاصرين الذين لم يبلغوا سن الرشد والذين لا يعتد بموافقتهم في القانون أصلًا، كيف يُترك لكل ما تم نشره عنهم في فترة معينة أن يحدد مسار حياتهم الشخصية أو المهنية إلى الأبد وأن يرتبط بالصورة الذهنية التي يكونها الناس عنهم بمجرد البحث في أسمائهم؟
ولكن بما أن غوغل قد صرحت بأنها تلقت ما يزيد على 845 ألف طلب إزالة مجموع 3.3 مليون عنوان إنترنت، وقد تم حذف نحو 45٪ من الروابط، فربما يكون للمرء الحق في الأيام المقبلة “بأن يُنسى”، وربما “أن يُنسى كأن لم يكُن”
قائمة المراجع
[1] https://curia.europa.eu/jcms/upload/docs/application/pdf/2014-05/cp140070en.pdf
[2] Whitman, James Q. (2004). “The Two Western Cultures of Privacy: Dignity Versus Liberty”. Yale Law Journal. 113 (6): 1151–1221 [p. 1161–2]
[3] BERNARD BEIGNIER, LE DROIT DE LA PERSONNALITt 60-61 (1992) (contrasting the French focus on dignity with the characteristically American focus on liberty)
[4] Whitman, James Q. (2004). “The Two Western Cultures of Privacy: Dignity Versus Liberty”. Yale Law Journal. 113 (6): [p. 1160]
[5] Melderechtsrahmengesetz (MRRG), v. 24.6.1994 (BGBI. I S. 1302).
[6] In Germany, this is governed by the Rundfunkgebiihrenstaatsvertrag (RgebStV), v. 31.8.1991, zuletzt geandert durch Artikel 5 des Funflen Staatsvertrages zur Anderung rundfunkrechtlicher Staatsvertraige v. 6.7.2000-7.8.2000 (GVBI. Berlin, S.447). For a popular website discussion of the powers of German inspectors, see Fragen und Antworten, http://www.gezneindanke.de/faq.htm (last visited Nov. 5, 2003). For France, see Decree No. 92-304 of Mar. 30, 1992, http://www.legifrance.gouv.fr/texteconsolide/FBHAD.htm; and STEPHANE NERRANT, LA MISE HORS D’USAGE DU TELEVISEUR ET L’EXIGIBILITt DE LA REDEVANCE DE L’AUDIOVISUEL (2000).
[7] https://www.theguardian.com/technology/2014/may/14/explainer-right-to-be-forgotten-the-newest-cultural-shibboleth
[1] Charles Fried, Privacy, 77 YALE L.J. 475, 477 (1968).
[2] https://curia.europa.eu/jcms/upload/docs/application/pdf/2014-05/cp140070en.pdf
[3] Convention for the Protection of Human Rights and Fundamental Freedoms, Nov. 4, 1950, art. 8, para. 1, 213 U.N.T.S. 221, 230 (entered into force Sept. 3, 1953). For an example of the pride and bemusement occasioned by English differences, see Chrisje Brants, The State and the Nation ‘s Bedrooms: The FundamentalRight of Sexual Autonomy, in PERSONAL AUTONOMY, THE PRIVATE SPHERE AND THE CRIMINAL LAW 117, 117 (Peter Alldridge & Chrisje Brants eds., 2001). See also Convention for the Protection of Individuals with Regard to Automatic Processing of Personal Data, Jan. 28, 1981, Europ. T.S. No. 108 (entered into force Oct. 1, 1985); Universal Declarationof Human Rights, art. 12, G.A. Res. 217 (III)A, U.N. GAOR, 3d Sess., at 71, U.N. Doe. A/810 (1948).
نوف العنزي- 18/05/2021